1 سبب تفوق المجتمعات الغربية وتخلف المجتمعات العربية في المعارف والعلوم السبت يناير 15, 2011 4:38 am
نسيم الشرق
عضو فعالالدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الحمد
لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك
الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء
عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى
العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى
آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها
المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله:
فما زالت إخوة لنا يطرحون هذا السؤال الذي سبق أن أجبت عنه وها أنا أعيد الجواب عنه مع عودة السؤال مرة أخرى.
يقول
أحدهم: لماذا تظل المجتمعات الغربية متفوقة في معارفها وعلومها المادية،
متميزة في الإبداع والاختراع، ثروات الدنيا تحت أيديهم وزمام القيادة في
العالم خاضع لسلطانهم وهم كفرة فجرة عاكفون على الغيِّ وعلى كل أنواع
المعاصي والفواحش في حين أن المجتمعات العربية اليوم تعاني من كثير من
التخلف في المعارف والعلوم المادية، تعاني من التخلف في الإبداع والاختراع،
تعاني من الفقر وهي التي كانت مضرب المثل في الغنى، تنظر إلى وضعها وإذا
هي تابعة بعد أن كانت متبوعة مع أن أهل هذه المجتمعات مسلمون مؤمنون بالله
سبحانه وتعالى؟ هذا هو السؤال المتكرر الذي سبق أن أجبت عنه وها أنا ذا
أعيد الجواب عنه مع عودة السؤال.
ولكن
الغريب يا عباد الله أن الذين يطرحون هذا السؤال، لا مستفسرين بل
مستنكرين ومنتقدين، قائلين أين هي عدالة الله أمام هذا المظهر؟ الغريب أن
هؤلاء لا يلتفتون إلى ما يقوله الله في كتابه، لا يلتفتون إلى سنن الله
سبحانه وتعالى في عباده، معرضون عن الإسلام الذين يُذَكِّرُون العالم به
ويسألون عن مصير العدالة الإلهية أمامه. فما الجواب عن هذا السؤال يا عباد
الله؟
هما سُنَّتَان من السنن الربانية التي يأخذ الله عز وجل بها عباده والتي أعلن عنها في محكم تبيانه.
أما
السُّنَّةُ الأولى – أو بالعبارة الحديثة – أما القانون الأول فهو
القانون الذي يقضي بأن كل إنسان أو كل مجتمع بذل الجهد في سبيل الوصول إلى
غاية، تحمل التعب والضنى في سبيل هدف، بذل العرق سخياً في سبيل هدفه هذا
لابد أن يوصله الله عز وجل إلى غايته ولابد أن يعطيه ثمرة جهوده أياً كان
هذا الإنسان أو أياً كان هذا المجتمع مسلماً مؤمناً جاحداً كافراً، فهذا
هو القانون الأول، يعبر عنه بيان الله عز وجل بقوله:
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) [هود : 15].
ثم قال:
(أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [هود : 16].
وأما
القانون الثاني فهو ذلك الذي يقضي بأن الله سبحانه وتعالى إن رأى فرداً
أو مجتمعاً اصطبغ بذل العبودية لله عز وجل وأصغى إلى وصاياه وأوامره
فنفَّذها بصدق ودقة فإن حقاً على الله عز وجل – وقد ألزم الله بذلك ذاته
ولا ملزم له – أن يرقى بهؤلاء الناس إلى سُدَّةِ التقدم، إلى سُدَّةِ
الحضارة قفزاً فوق الجهود وفوق مقتضيات الزمن ومراحل الزمن، وقد عبَّر
البيان الإلهي عن هذا بقوله:
(وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ) [النور : 55].
ويعبر عنه البيان الإلهي أيضاً بقوله:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل : 97].
هذان القانونان نقرؤهما في كتاب الله هما الجواب باختصار عن هذا السؤال الذي يتطارحه اليوم إخوة لنا.
المجتمعات
الغربية أصحابها ورثوا عن آبائهم وأجدادهم جهوداً تحملوها وعرقاً بذلوه،
جامعاتهم القديمة والحديثة تشهد بذلك، تاريخ الحضارة الغربية يشهد بذلك،
إنهم اعتمدوا بذلك على جهودهم الشخصية، اعتمدوا في ذلك على قدراتهم الذاتية
ولم يعتمدوا في ذلك على دين ولم يستنزلوا في ذلك نصراً من عند رب
العالمين سبحانه وتعالى فحق لهم بمقتضى قانون الله الذي سمعتم بيانه أن
يكرمهم الله عز وجل بثمرات جهودهم ولا فرق بين أن يكونوا مؤمنين أو غير
مؤمنين، عاكفين على الغيِّ أو ملتزمين للرشد، نعم.
أما
نحن العرب الذين نقول إننا مسلمون في هذا العصر فإننا أحفاد ذلك الرعيل
الأول الذي كان قبل مجيء الإسلام ممثلاً في بعثة رسول الله صلى الله عليه
وسلم مضرب المثل في التخلف والأمية والجهل، كانوا يعيشون على هامش التاريخ،
إن هي إلا سنوات يسيرة مضت من عمر التزامهم الحق بالإسلام واصطباغهم حقاً
بذل العبودية لله وانقيادهم بطواعية لأمر الله سبحانه وتعالى حتى سما بهم
بيان الله بل قانونه إلى صعيد الحضارة الباسقة قفزاً فوق شروط الزمن،
قفزاً فوق شروط الجهد، قفزاً في شروط الأتعاب التي بذلها أولئك الغربيون.
لم يمض من عمر الفتح الإسلامي إلا ربع قرن وإذا بأولئك الذين كانوا مضرب
المثل في التخلف بكل أنواعه إذا بهم غدوا مضرب المثل في التقدم بكل
أنواعه.
حدثوني، أولئك المهندسون من العرب الذين بهروا العالم من أي جامعة تخرجوا؟
حدثوني، أولئك الأطباء الذين بهروا العالم وأبدع من أبدع منهم الدورة
الدموية وغيرها من أي جامعة تخرجوا؟ حدثوني، أولئك العلماء الذين بزوا
العالم في علم الفلك والرياضيات وغيرها من أي جامعة تخرجوا؟ إن هو إلا
القفز الذي شاءه الله لهم، إن هو إلا مصداق قوله:
(وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) [البقرة : 282].
هذا
هو التاريخ العربي الذي نعرفه، وقد ذكر العلماء في ترجمة أبي الحسن علي
بن النفيس أنه كان يعكف على معارفه الطبية وغيرها فإذا وقف أمام مشكلة أو
معضلة لم يتأت له حلها ترك ما هو بصدده وهُرِعَ إلى الميضئة فأسبغ الوضوء
ثم صلى ركعتين ثم التجأ إلى الله أن يلهمه الرشد. أبو علي ابن سينا كذلك
كان شأنه.
واليوم
– يا عباد الله – عندما يتبرم أكثر المسلمين العرب – لا أقول جلهم –
يتبرمون بالإسلام ويملّون من لا أقول الالتزام به بل من الانتماء أيضاً
إليه، يرفعون لواء الحداثة وما أشبه وتتجه منهم المطامع إلى تقليد
المجتمعات الغربية هنا وهناك ماذا تنتظر من المنطق وماذا ننتظر من سنة الله
الثانية؟ لابد أن يقول لهم قانون الله عز وجل إذاً أنتم لستم الآن بحاجة
إلى الإسلام تعالوا فاخلعوا هذا الثوب إذاً وارجعوا كما يقول الله:
(ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ) [الأنبياء : 13].
تلمسوا
جهودكم وثمراتها، ارجعوا. إن كنتم قد بذلتم جهداً متمثلاً في أنفسكم أو
أجدادكم، إن كنتم قد بذلتم عرقاً أو تحملتم جهداً في سبيل حضارة متعتكم
بها، في سبيل تبؤ مركز من التقدم العلمي والتقني والاقتصادي بوأتكم به
فارجعوا إليه وأسعدوا أنفسكم به، هذا ما يقوله قانون الله سبحانه وتعالى.
أمتنا
العربية والإسلامية اليوم تعلن بلسان الحال أنها لم تعد بحاجة إلى منَّةِ
الإسلام وإن كانت تتجمل بالانتساب إليه، وإن كانت تتجمل بالتباهي بأولئك
الذين التزموا به حق الالتزام واصطبغوا بذل العبودية لله حقاً فسما بهم
قانون الله إلى ما قد ذكرته لكم، لكنهم اليوم – كما تعلمون – يرفعون لواء
الحداثة وينظرون إلى الإسلام ومقوماته على أنه شيء قديم بائد أكل الدهر
عليه وشرب إلا من رحم ربك طبعاً، قانون الله ماذا يقول؟ يقول: حسناً ارجعوا
إلى التاريخ الغابر إن عثرتم على آثارٍ لجهودٍ شخصية بذلتموها كما بذل
أهل الغرب فتمتعوا بثمرات جهودكم، أما إن كان الماضي الذي تعتزون به
ثمراته التي سمت بكم إلى أوج التقدم إنما كانت عن طريق الرقي في سُلَّمِ
الإسلام عبر درجات الإسلام إذاً وأنتم الآن تعلنون أنكم لستم بحاجة إلى
السُّلَّم فلا بد أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام.
هذا هو قانون الله، بمقدار تراجعنا عن الالتزام بهذا الدين يقضي الله علينا بمقدار ذلك تخلفاً.
وإني – يا عباد الله – ضربت بالأمس مثلاً لهذا وها أنا ذا أعيد المثل مرة أخرى.
أسرة
منكوبة تقيم في العراء، ليس لها دارٌ تأوي إليها، ليس لها طعام يسد
جوعتها، ليس لها لباس يقيها من الحر والبرد. مرَّ رجل ثري كريم ذو مروءة
عالية نظر إلى هذه الأسرة فداخلته الشفقة عليها حملها بأفرادها وأقامها في
دار منيفة، في دار باذخة وأجرى عليها جراية شهرية مجزئة، عاش أفراد هذه
الأسرة وهم يتقلبون في النعيم بعد ذلك الضنك، مرت مدة وهم يثنون على هذا
الإنسان الكريم الذي انتشلهم من أسباب الهلاك، ولكن ما هي إلا مدة حتى طافت
نشوة الكبرياء، طافت نشوة الحياة الباذخة التي يتمتعون بها، طاف كل ذلك
برؤوسهم، نسوا الذي تفضل عليهم، نسوا الحالة التي كانوا فيها واليد التي
انتشلتهم منها، تنكروا للرجل، ماذا يقول القانون المنطقي؟
يقول
التالي: جاء هذا الإنسان فطرق عليهم الباب، قال لرب الأسرة: يبدوا أنكم
استغنيتم ويبدوا أنكم أصبحتم في غنى عن اليد التي أنقذتكم والتي تمدكم
بالعطاء إذاً تفضلوا واخرجوا إلى الغنى الذي نسجتموه، اخرجوا إلى نتيجة
وثمرات جهودكم التي بذلتموها. يقول رب الأسرة – كما نسمع اليوم – ولكن ها
هي ذي البيوت الأخرى التي تحيط بنا لماذا لا تطردهم هم أيضاً من بيوتهم
كما تطردنا؟ يقول: لا، فرق كبير بينكم وبينهم، أولئك هم الذين تعبوا في
بناء بيوتهم، أولئك هم الذين أضنوا أنفسهم وبذلوا الجهد الطويل والكثير في
سبيل حياتهم الباذخة المترفة التي يتقلبون فيها أما أنتم فما هي جهودكم؟
ارجعوا إلى مساكنكم التي بنيتموها بجهودكم.
والله
الذي لا إله إلا هو ذلك هو مثل مجتمعاتنا العربية اليوم بالنسبة
للمجتمعات الغربية، وانظروا إلى بيان الله الذي كأنه يخاطبنا اليوم:
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ) [الأنبياء : 13].
هذا كلام الله يخاطبنا به اليوم، لا تبحثوا هنا وهنا عن أسباب الذل التي حاقت بكم، لا تستنكروا ولا تعترضوا (ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ)، أنتم مترفون، أنتم أغنياء، أنتم لستم بحاجة إليَّ
(ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ)
خطاب تهكمي توبيخي يخاطبهم الله سبحانه وتعالى به.
يا عجباً، مهما كرَّرْتُ هذه الآية في كتاب الله لا يمكن إلا أن أتصور أنها نزلت اليوم وأنها تخاطبنا اليوم:
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) [الأنبياء : 13].
نعم، هذا هو الجواب بعد الجواب الذي ذكرته لكم قبل أسبوعين.
أسأل الله عز وجل أن يلهم المعترضين ألا يفروا من الجواب.
أسأل الله أن يلهم الذين يحركون ألسنتهم بالانتقاد أن يوجهوا أسماعهم إلى الجواب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الحمد
لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك
الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء
عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى
العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى
آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها
المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله:
فما زالت إخوة لنا يطرحون هذا السؤال الذي سبق أن أجبت عنه وها أنا أعيد الجواب عنه مع عودة السؤال مرة أخرى.
يقول
أحدهم: لماذا تظل المجتمعات الغربية متفوقة في معارفها وعلومها المادية،
متميزة في الإبداع والاختراع، ثروات الدنيا تحت أيديهم وزمام القيادة في
العالم خاضع لسلطانهم وهم كفرة فجرة عاكفون على الغيِّ وعلى كل أنواع
المعاصي والفواحش في حين أن المجتمعات العربية اليوم تعاني من كثير من
التخلف في المعارف والعلوم المادية، تعاني من التخلف في الإبداع والاختراع،
تعاني من الفقر وهي التي كانت مضرب المثل في الغنى، تنظر إلى وضعها وإذا
هي تابعة بعد أن كانت متبوعة مع أن أهل هذه المجتمعات مسلمون مؤمنون بالله
سبحانه وتعالى؟ هذا هو السؤال المتكرر الذي سبق أن أجبت عنه وها أنا ذا
أعيد الجواب عنه مع عودة السؤال.
ولكن
الغريب يا عباد الله أن الذين يطرحون هذا السؤال، لا مستفسرين بل
مستنكرين ومنتقدين، قائلين أين هي عدالة الله أمام هذا المظهر؟ الغريب أن
هؤلاء لا يلتفتون إلى ما يقوله الله في كتابه، لا يلتفتون إلى سنن الله
سبحانه وتعالى في عباده، معرضون عن الإسلام الذين يُذَكِّرُون العالم به
ويسألون عن مصير العدالة الإلهية أمامه. فما الجواب عن هذا السؤال يا عباد
الله؟
هما سُنَّتَان من السنن الربانية التي يأخذ الله عز وجل بها عباده والتي أعلن عنها في محكم تبيانه.
أما
السُّنَّةُ الأولى – أو بالعبارة الحديثة – أما القانون الأول فهو
القانون الذي يقضي بأن كل إنسان أو كل مجتمع بذل الجهد في سبيل الوصول إلى
غاية، تحمل التعب والضنى في سبيل هدف، بذل العرق سخياً في سبيل هدفه هذا
لابد أن يوصله الله عز وجل إلى غايته ولابد أن يعطيه ثمرة جهوده أياً كان
هذا الإنسان أو أياً كان هذا المجتمع مسلماً مؤمناً جاحداً كافراً، فهذا
هو القانون الأول، يعبر عنه بيان الله عز وجل بقوله:
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) [هود : 15].
ثم قال:
(أُوْلَـئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [هود : 16].
وأما
القانون الثاني فهو ذلك الذي يقضي بأن الله سبحانه وتعالى إن رأى فرداً
أو مجتمعاً اصطبغ بذل العبودية لله عز وجل وأصغى إلى وصاياه وأوامره
فنفَّذها بصدق ودقة فإن حقاً على الله عز وجل – وقد ألزم الله بذلك ذاته
ولا ملزم له – أن يرقى بهؤلاء الناس إلى سُدَّةِ التقدم، إلى سُدَّةِ
الحضارة قفزاً فوق الجهود وفوق مقتضيات الزمن ومراحل الزمن، وقد عبَّر
البيان الإلهي عن هذا بقوله:
(وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ) [النور : 55].
ويعبر عنه البيان الإلهي أيضاً بقوله:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل : 97].
هذان القانونان نقرؤهما في كتاب الله هما الجواب باختصار عن هذا السؤال الذي يتطارحه اليوم إخوة لنا.
المجتمعات
الغربية أصحابها ورثوا عن آبائهم وأجدادهم جهوداً تحملوها وعرقاً بذلوه،
جامعاتهم القديمة والحديثة تشهد بذلك، تاريخ الحضارة الغربية يشهد بذلك،
إنهم اعتمدوا بذلك على جهودهم الشخصية، اعتمدوا في ذلك على قدراتهم الذاتية
ولم يعتمدوا في ذلك على دين ولم يستنزلوا في ذلك نصراً من عند رب
العالمين سبحانه وتعالى فحق لهم بمقتضى قانون الله الذي سمعتم بيانه أن
يكرمهم الله عز وجل بثمرات جهودهم ولا فرق بين أن يكونوا مؤمنين أو غير
مؤمنين، عاكفين على الغيِّ أو ملتزمين للرشد، نعم.
أما
نحن العرب الذين نقول إننا مسلمون في هذا العصر فإننا أحفاد ذلك الرعيل
الأول الذي كان قبل مجيء الإسلام ممثلاً في بعثة رسول الله صلى الله عليه
وسلم مضرب المثل في التخلف والأمية والجهل، كانوا يعيشون على هامش التاريخ،
إن هي إلا سنوات يسيرة مضت من عمر التزامهم الحق بالإسلام واصطباغهم حقاً
بذل العبودية لله وانقيادهم بطواعية لأمر الله سبحانه وتعالى حتى سما بهم
بيان الله بل قانونه إلى صعيد الحضارة الباسقة قفزاً فوق شروط الزمن،
قفزاً فوق شروط الجهد، قفزاً في شروط الأتعاب التي بذلها أولئك الغربيون.
لم يمض من عمر الفتح الإسلامي إلا ربع قرن وإذا بأولئك الذين كانوا مضرب
المثل في التخلف بكل أنواعه إذا بهم غدوا مضرب المثل في التقدم بكل
أنواعه.
حدثوني، أولئك المهندسون من العرب الذين بهروا العالم من أي جامعة تخرجوا؟
حدثوني، أولئك الأطباء الذين بهروا العالم وأبدع من أبدع منهم الدورة
الدموية وغيرها من أي جامعة تخرجوا؟ حدثوني، أولئك العلماء الذين بزوا
العالم في علم الفلك والرياضيات وغيرها من أي جامعة تخرجوا؟ إن هو إلا
القفز الذي شاءه الله لهم، إن هو إلا مصداق قوله:
(وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) [البقرة : 282].
هذا
هو التاريخ العربي الذي نعرفه، وقد ذكر العلماء في ترجمة أبي الحسن علي
بن النفيس أنه كان يعكف على معارفه الطبية وغيرها فإذا وقف أمام مشكلة أو
معضلة لم يتأت له حلها ترك ما هو بصدده وهُرِعَ إلى الميضئة فأسبغ الوضوء
ثم صلى ركعتين ثم التجأ إلى الله أن يلهمه الرشد. أبو علي ابن سينا كذلك
كان شأنه.
واليوم
– يا عباد الله – عندما يتبرم أكثر المسلمين العرب – لا أقول جلهم –
يتبرمون بالإسلام ويملّون من لا أقول الالتزام به بل من الانتماء أيضاً
إليه، يرفعون لواء الحداثة وما أشبه وتتجه منهم المطامع إلى تقليد
المجتمعات الغربية هنا وهناك ماذا تنتظر من المنطق وماذا ننتظر من سنة الله
الثانية؟ لابد أن يقول لهم قانون الله عز وجل إذاً أنتم لستم الآن بحاجة
إلى الإسلام تعالوا فاخلعوا هذا الثوب إذاً وارجعوا كما يقول الله:
(ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ) [الأنبياء : 13].
تلمسوا
جهودكم وثمراتها، ارجعوا. إن كنتم قد بذلتم جهداً متمثلاً في أنفسكم أو
أجدادكم، إن كنتم قد بذلتم عرقاً أو تحملتم جهداً في سبيل حضارة متعتكم
بها، في سبيل تبؤ مركز من التقدم العلمي والتقني والاقتصادي بوأتكم به
فارجعوا إليه وأسعدوا أنفسكم به، هذا ما يقوله قانون الله سبحانه وتعالى.
أمتنا
العربية والإسلامية اليوم تعلن بلسان الحال أنها لم تعد بحاجة إلى منَّةِ
الإسلام وإن كانت تتجمل بالانتساب إليه، وإن كانت تتجمل بالتباهي بأولئك
الذين التزموا به حق الالتزام واصطبغوا بذل العبودية لله حقاً فسما بهم
قانون الله إلى ما قد ذكرته لكم، لكنهم اليوم – كما تعلمون – يرفعون لواء
الحداثة وينظرون إلى الإسلام ومقوماته على أنه شيء قديم بائد أكل الدهر
عليه وشرب إلا من رحم ربك طبعاً، قانون الله ماذا يقول؟ يقول: حسناً ارجعوا
إلى التاريخ الغابر إن عثرتم على آثارٍ لجهودٍ شخصية بذلتموها كما بذل
أهل الغرب فتمتعوا بثمرات جهودكم، أما إن كان الماضي الذي تعتزون به
ثمراته التي سمت بكم إلى أوج التقدم إنما كانت عن طريق الرقي في سُلَّمِ
الإسلام عبر درجات الإسلام إذاً وأنتم الآن تعلنون أنكم لستم بحاجة إلى
السُّلَّم فلا بد أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام.
هذا هو قانون الله، بمقدار تراجعنا عن الالتزام بهذا الدين يقضي الله علينا بمقدار ذلك تخلفاً.
وإني – يا عباد الله – ضربت بالأمس مثلاً لهذا وها أنا ذا أعيد المثل مرة أخرى.
أسرة
منكوبة تقيم في العراء، ليس لها دارٌ تأوي إليها، ليس لها طعام يسد
جوعتها، ليس لها لباس يقيها من الحر والبرد. مرَّ رجل ثري كريم ذو مروءة
عالية نظر إلى هذه الأسرة فداخلته الشفقة عليها حملها بأفرادها وأقامها في
دار منيفة، في دار باذخة وأجرى عليها جراية شهرية مجزئة، عاش أفراد هذه
الأسرة وهم يتقلبون في النعيم بعد ذلك الضنك، مرت مدة وهم يثنون على هذا
الإنسان الكريم الذي انتشلهم من أسباب الهلاك، ولكن ما هي إلا مدة حتى طافت
نشوة الكبرياء، طافت نشوة الحياة الباذخة التي يتمتعون بها، طاف كل ذلك
برؤوسهم، نسوا الذي تفضل عليهم، نسوا الحالة التي كانوا فيها واليد التي
انتشلتهم منها، تنكروا للرجل، ماذا يقول القانون المنطقي؟
يقول
التالي: جاء هذا الإنسان فطرق عليهم الباب، قال لرب الأسرة: يبدوا أنكم
استغنيتم ويبدوا أنكم أصبحتم في غنى عن اليد التي أنقذتكم والتي تمدكم
بالعطاء إذاً تفضلوا واخرجوا إلى الغنى الذي نسجتموه، اخرجوا إلى نتيجة
وثمرات جهودكم التي بذلتموها. يقول رب الأسرة – كما نسمع اليوم – ولكن ها
هي ذي البيوت الأخرى التي تحيط بنا لماذا لا تطردهم هم أيضاً من بيوتهم
كما تطردنا؟ يقول: لا، فرق كبير بينكم وبينهم، أولئك هم الذين تعبوا في
بناء بيوتهم، أولئك هم الذين أضنوا أنفسهم وبذلوا الجهد الطويل والكثير في
سبيل حياتهم الباذخة المترفة التي يتقلبون فيها أما أنتم فما هي جهودكم؟
ارجعوا إلى مساكنكم التي بنيتموها بجهودكم.
والله
الذي لا إله إلا هو ذلك هو مثل مجتمعاتنا العربية اليوم بالنسبة
للمجتمعات الغربية، وانظروا إلى بيان الله الذي كأنه يخاطبنا اليوم:
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ) [الأنبياء : 13].
هذا كلام الله يخاطبنا به اليوم، لا تبحثوا هنا وهنا عن أسباب الذل التي حاقت بكم، لا تستنكروا ولا تعترضوا (ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ)، أنتم مترفون، أنتم أغنياء، أنتم لستم بحاجة إليَّ
(ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ)
خطاب تهكمي توبيخي يخاطبهم الله سبحانه وتعالى به.
يا عجباً، مهما كرَّرْتُ هذه الآية في كتاب الله لا يمكن إلا أن أتصور أنها نزلت اليوم وأنها تخاطبنا اليوم:
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) [الأنبياء : 13].
نعم، هذا هو الجواب بعد الجواب الذي ذكرته لكم قبل أسبوعين.
أسأل الله عز وجل أن يلهم المعترضين ألا يفروا من الجواب.
أسأل الله أن يلهم الذين يحركون ألسنتهم بالانتقاد أن يوجهوا أسماعهم إلى الجواب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.